فصل: سنة ثمان وتسعين ومائتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر مسير أبي عبد الله إلى سِجِلماسة وظهور المهديّ:

لمّا استقرّت الأمور لأبي عبد الله في رقّادة وسائر بلاد أفريقية أتاه أخوه أبو العبّاس محمّد، ففرح به، وكان هو الكبير، فسار أبو عبد الله في رمضان من السنة من رقّادة، واستخلف على إفريقية أخاه أبا العبّاس، وأبا زاكي، وسار في جيوش عظيمة، فاهتزّ المغرب لخروجه، وخافته زَناتة، وزالت القبائل عن طريقه، وجاءته رسلهم ودخلوا في طاعته.
فلمّا قر من سِجِلْماسة، وانتهى خبره إلى ألِيْسَع بن مِدرار، أمير سجلماسة، أرسل إلى المهديّ، وهو في حبسه، على ما ذكرناه، يسأله عن نسبه وحاله، وهل إليه قصد أبو عبد الله؟ فحلف له المهديّ أنّه ما رأى أبا عبدالله؛ ولا عرفه، وإنّما أنا رجل تاجر؛ فاعتُقل في دار وحدة، وكذلك فعل بولده أبي القاسم، وجعل عليهما الحرس، وقرّر ولده أيضاً، فما حال عن كلام أبيه، وقرّر رجلاً كانوا معه، وضربهم، فلم يقرّوا بشيء.
وسمع أبو عبد الله ذلك، فشقّ عليه، فأرسل إلى ألِيْسَع يتلطّفه، وأنّه لم يقصد الحرب، وإنّما له حاجة مهمّة عنده، ووعده الجميل، فرمى الكتاب، وقتل الرسل، فعاوده بالملاطفة خوفاً على المهديّ، ولم يذكره له، فقتل الرسول أيضاً، فأسرع أبو عبد الله في السير، ونزل عليه، فخرج إليه ألِيْسَع، وقاتله يومه ذلك، وافترقوا، فلمّا جنّهم الليل هرب أليسع وأصحابه من أهله وبني عمّه، وبات أبو عبدالله ومَن معه فيغمّ عظيم لا يعلمون ما صنع بالمهديّ وولده، فلمّا أصبح خرج إليه أهل البلد، وأعلموه بهرب أليسع، فدخل هو وأصحابه البلد، وأتوا المكان الذي فيه المهديّ، فاستخرجه، واستخرج ولده، فكانت في الناس مسرّة عظيمة كادت تذهب بعقولهم، فأركبهما، ومشى هو ورؤساء القبائل بين أيديهما، وأبو عبدالله يقول للناس: هذا مولاكم، وهو يبكي من شدّة الفرح، حتّى وصل إلى فسطاط قد ضُرب له، فنزل فيه، وأمر بطلب أليسع، فطُلب، فأُدرك، فأُخذ وضُرب بالسياط ثمّ قُتل.
فلمّا ظهر المهديُّ أقام بسِجِلماسة أربعين يوماً، وسار إلى أفريقية، وأحضر الأموال من إنكجان، فجعلها أحمالاً وأخذها معه، ووصل إلى رقّادة العشر الأخير من ربيع الآخر من سنة سبع وتسعين ومائتين، وزال ملك بني الأغلب، وملك بني مدرار الذين منهم ألِيسع وكان لهم ثلاثون ومائة سنة منفردين بسجلماسة، وزال ملك بني رستم من تاهرَت، ولهم ستون ومائة سنة تفرّدوا بتاهَرت، وملك المهديُّ جميع ذلك، فلمّا قرب من رقّادة تلقّاه أهلها، وأهل القَيروان، وأبو عبدالله، ورؤساء كُتامة مشاةً بين يديه، وولده خلفه، فسلّموا عليه، فردّ جميلاً، وأمرهم بالانصراف، ونزل بقصر من قصور رقّادة، وأمر يوم الجمعة بذكر اسمه في الخطبة في البلاد، وتلقّب بالمهديّ أمير المؤمنين.
وجلس بعد الجمعة رجل يُعرف بالشريف، ومعه الدعاة، وأحضروا الناس بالعنف والشدّة، ودعوهم إلى مذهبهم، فمن أجاب أُحسن إليه، ومَن أبى حُبس، فلم يدخل في مذهبهم إلاّ بعض الناس، وهم قليل، وقُتل كثير ممّن لم يوافقهم على قولهم.
وعَرض عليه أبو عبدالله جواريَ زيادة الله، فاختار منهنّ كثيراً لنفسه ولولده أيضاً، وفرّق ما بقي على وجوه كُتامة، وقسّم عليهم أعمال إفريقية، ودوّن الدواوين، وجبى الأموال، واستقرّت قدمه، ودانت له أهل البلاد، واستعمل العمّال عليها جميعها؛ فاستعمل على جزيرة صِقلّية الحسن بن أحمد ابن أبي خنزير، فوصل إلى مازَرَ عاشر ذي الحجّة سنة سبع وتسعين ومائتين، فولّى أخاه على جرجنت، وجعل قاضياً بصقلّية إسحاق بن المنهال، وهو أوّل قاضٍ تولّى بها للمهديّ العلويّ.
وبقي ابن أبي خنزير إلى سنة ثمان وتسعين، فسار في عسكره إلى دَمَنْشَ، فغنم، وسبى، وأحر، وعاد فبقي مدّة يسيرة، وأساء السيرة في أهلها، فثاروا به، وأخذوه وحبسوه، وكتبوا إلى المهديّ بذلك، واعتذروا، فقبل عذرهم، واستعمل عليهم عليَّ بن عمر البَلَويَّ، فوصل آخر ذي الحجّة سنة تسع وتسعين ومائتين.

.ذكر قتل أبي عبد الله الشيعيّ وأخيه أبي العبّاس:

في سنة ثمان وتسعين ومائتين قُتل أبو عبد الله الشيعيُّ، قتله المهديَّ عبيد الله.
وسبب ذلك أنّ المهديّ لمّا استقامت له البلاد، ودانت له العباد، وباشر الأمور بنفسه، وكفّ يد أبي عبد الله، ويد أخيه أبي العبّاس، داخل أبا العبّاس الحسد، وعظُم عليه الفطام عن الأمر والنهي، والأخذ والعطاء، فأقبل يُزري على المهديّ في مجلس أخيه، ويتكلّم فيه، وأخوه ينهاه، ولا يرضى فعله، فلا يزيده ذلك إلاّ لجاجاً.
ثمّ إنّه أظهر أبا عبدالله على ما في نفسه، وقال له: ملكتَ أمراً، فجئت بمن أزالك عنه، وكان الواجب عليه أن لا يسقط حقّك.
ولم يزل حتّى أثّر في قلب أخيه، فقال يوماً للمهديّ: لو كنتَ تجلس في قصرك، وتتركني مع كُتامة آمرهم وأنهاهم، لأنّي عارفٌ بعاداتهم، لكان أهيب لك في أعين الناس.
وكان المهديُّ سمع شيئاً ممّا يجري بين أبي عبد الله وأخيه، فتحقّق ذلك، غير أنّه ردّ ردّاً لطيفاً، فصار أبو العبّاس يشير إلى المقدّمين بشيء من ذلك، فمن رأى منه قبولاً كشف له ما في نفسه، وقال: ما جازاكم على ما فعلتم، وذكر لهم الأموال التي أخذها المهديُّ من إنكِجَان، وقال: هلاّ قسّمها فيكم! وكلّ ذلك يتّصل بالمهديّ، وهو يتغافل، وأبو عبدالله يداري، ثمّ صار أبو العبّاس يقول: إن هذا ليس الذي كنّا نعتقد طاعته، وندعو إليه لأنّ المهديّ يختم بالحجّة، ويأتي بالآيات الباهرة، فأخذ قوله بقلوب كثير من الناس، منهم إنسان من كُتامة يقال له شيخ المشايخ، فواجه المهديَّ بذلك، وقال: إن كنتَ المهديَّ فأظهر لنا آيةً، فقد شككنا فيك؛ فقتله المهديُّ، فخافه أبو عبدالله، وعلم أنّ المهديّ قد تغيّر عليه، فاتّفق هو وأخوه ومن معهما على الاجتماع عند أبي زاكي، وعزموا على قتل المهدي واجتمع معهم قبائل كُتامة إلاّ قليلاً منهم.
وكان معهم رجل يُظهر أنّه منهم، وينقل ما يجري إلى المهديّ، ودخلوا عليه مراراً فلم يجسروا على قتله، فاتّفق أنّهم اجتمعوا ليلة عند أبي زاكي، فلمّا أصبحوا لبس أبو عبدالله ثوبه مقلوباً ودخل على المهديّ، فرأى ثوبه، فلم يعرّفه به، ثمّ دخل عليه ثلاثة أيّام والقميص بحاله، فقال له المهديُّ: ما هذا الأمر الذي أذهلك عن إصلاح ثوبك؟ فهو مقلوب منذ ثلاثة أيّام فعلمتُ أنّك ما نزعتَه؛ فقال: ما علمتُ بذلك إلاّ ساعتي هذه؛ قال: أين كنتَ البارحة والليالي قبلها؟ فسكت أبو عبدالله؛ فقال: أليس بتّ في دار أبي زاكي؟ قال: بلى. قال: وما الذي أخرجك من دارك؟ قال: خفتُ. قال: وهل يخاف الإنسان إلا من عدوّه؟ فعلم أنّ أمره ظهر للمهديّ، فخرج وأخبر أصحابه، وخافوا، وتخلّفوا عن الحضور.
فذُكر ذلك للمهديّ، وعنده رجل يقال له ابن القديم، كان من جملة القوم، وعنده أموال كثيرة، من أموال زيادة الله، فقال: يا مولاي إن شئتِ أتيتُك بهم، ومضى فجاء بهم، فعلم المهديُّ صحّة ما قيل عنه، فلاطفهم وفرّقهم في البلاد، وجعل أبا زاكي والياً على طرابلس، وكتب إلى عاملها أن يقتله عند وصوله، فلمّا وصلها قتله عاملها، وأرسل رأسه إلى المهديّ، فهرب ابن القديم، فأُخذ، فأمر المهديُّ بقتله فقُتل.
وأمر المهديُّ عُرُوبة ورجالاً معه أن يرصدوا أبا عبدالله وأخاه أبا العبّاس، ويقتلوهما، فلمّا وصلا إلى قرب القصر حمل عروبة على أبي عبدالله، فقال: لا تفعل يا بنيّ! فقال: الذي أمَرتَنا بطاعته أمرنا بقتلك؛ فقُتل هو وأخوه، وكان قتلهما في اليوم الذي قُتل فيه أبو زاكي، فقيل: إنّ المهديّ صلّى على أبي عبدالله، وقال: رحمك الله: أبا عبدالله، وجزاك خيراً بجميل سعيك.
وثارت فتنة بسبب قتلهما، وجرّد أصحابهما السيوف، فركب المهديُّ وأمّن الناس، فسكنوا، ثمّ تَتّبعهم حتّى قتلهم.
وثارت فتنة ثانية بين كُتامة وأهل القَيروان، قُتل فيها خلق كثير، فخرج المهديُّ وسكّن الفتنة، وكفّ الدعاة عن طلب التشيّع من العامّة.
ولمّا استقامت الدولة للمهديّ عهد إلى ولده أبي القاسم نِزار بالخلافة، ورجعت كُتامة إلى بلادهم، فأقاموا طفلاً وقالوا: هذا هو المهديُّ، ثمّ زعموا أنّه نبيّ يوحى إليه، وزعموا أنّ أبا عبدالله لم يمُتْ، وزحفوا إلى مدينة مِيلة، فبلغ ذلك المهديَّ فأخرج ابنه أبا القاسم، فحصرهم، فقاتلوه فهزمهم واتّبعهم حتّى أجلاهم إلى البحر، وقتل منهم خلقاً عظيماً، وقتل الطفل الذي أقاموه.
وخالف عليه أهل صقلّية مع ابن وهب، فأنفذ إليهم أسطولاً، ففتحها وأتى بابن وهب فقتله.
وخالف عليه أهل تاهَرت، فعزاها، ففتحها، وقتل أهل الخلاف، وقتل جماعة من بني الأغلب برقّادة كانوا قد رجعوا إليها بعد وفاة زيادة الله.

.ذكر عدّة حوادث:

فيها سُيّر القاسم بن سيما وجماعة من القوّاد في طلب الحسين بن حَمدان، فساروا حتّى بلغوا قَرِقِيسياء والرَّحَبة، فلم يظفروا به، فكتب المقتدر إلى أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان، وهو الأمير بالموصِل، يأمره بطلب أخيه الحسين، فسار هو والقاسم بن سيما، فالتقوا عند تَكريت، فانهزم الحسين، فأرسل أخاه إبراهيم بن حَمدان يطلب الأمان، فأُجيب إلى ذلك، ودخل بغداد، وخُلع عليه، وعُقد له على قُمّ وقاشان، فسار غليها وصرف عنها العبّاس بن عمرو.
وفيها وصل بارس غلام إسماعيل السامانيّ، وقُلّد ديار ربيعة، وقد تقدّم ذكره.
وفيها كانت وقعة بين طاهر بن محمّد بن عمرو بن الليث وبين سُبكرى غلام عمرو، فأسر طاهراً ووجّهه وأخاه يعقوب بن محمّد بن عمرو إلى المقتدر مع كاتبه عبد الرحمن بن جعفر الشيرازيّ، فأُدخلا بغداد أسيرين، فحُبسا، وكان سُبكرى قد تغلّب على فارس بغير أمر الخليفة، فلمّا وصل كاتبه قرّر أمره على مال يحمله، وكان وصوله إلى بغداد سنة سبع وتسعين.
وفيها خُلع على مؤنس المظفَّر الخادم، وأُمر بالمسير إلى غزو الروم، فسار في جمع كثيف، فغزا من ناحية مَلَطْية، ومعه أبو الأغر السلميُّ، فظفر وغنم وأسر منهم جماعة وعاد.
وفيها قّلّد يوسف بن أبي الساج أعمال أرمينية وأذربيجان، وضمنها بمائة ألف وعشرين ألف دينار، فسار إليها من الدَّينَور.
وفيها سقط ببغداد ثلج كثير من بُكرة إلى العصر، فصار على الأرض أربع أصابع، وكان معه برد شديد، وجمد الماء والخلّ والبيض والأدهان، وهلك النخل، وكثير من الشجر؛ وحجّ بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشميُّ.
وفيها توفّي محمّد بن طاهر بن عبدالله بن طاهر.
وفيها قُتل سَوْسَن حاجب المقتدر، وسبب ذلك أنّه كان له أثر في أمر ابن المعتزّ، فلمّا بويع ابن المعتّز واستحجب غيره لزم المقتدر، فلمّا استوزر ابن الفرات تفرّد بالأمور، فعاداه سوسن، وسعى في فساد حاله، فأعلم ابنُ الفرات المقتدر بالله بحال سوسن، وأنّه كان ممّن أعان ابن المعتّز فقبض عليه وقتله.
وفيها توفّي محمّد بن داود بن الجرّاح عمّ عليّ بن عيسى الوزير، وكان عالماً بالكتابة.
وفيها توفّي عبدالله بن جعفر بن خاقان، وأبو عبد الرحمن الدهكانيُّ. ثم دخلت:

.سنة سبع وتسعين ومائتين:

.ذكر استيلاء الليث على فارس وقتله:

في هذه السنة سار الليث بن عليّ بن الليث من سِجِستان إلى فارس في جيش وأخذها، واستولى عليها، وهرب سُبكرى عنها إلى أرّجان، فلمّا بلغ الخبر المقتدر جهّز مؤنساً الخادم وسيّره إلى فارس، معونة لسُبكرى، فاجتمعا بأرّجان.
وبلغ خر اجتماعهما الليثَ، فسار إليهما، فأتاه الخبر بمسير الحسين ابن حَمدان من قُمّ إلى البيضاء، معونة لمؤنس، فسيّر أخاه في بعض جيشه إلى شيراز ليحفظها، ثمّ سار في بعض جنده في طريق مختصر ليواقع الحسين ابن حَمدان، فأخذ به الدليل في طريق الرجّالة، فهلك أكثر دوابّه، ولقي هو وأصحابه مشقّة عظيمة، فقتل الدليل، وعدل عن ذلك الطريق، فأشرف على عسكر مؤنس، فظنّه هو وأصحابه أنّه عسكره الذي سُيّر مع أخيه إلى شيراز، فكبّروا، فثار إليهم مؤنس وسُبكرى في جندهما، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم عسكر الليث، وأُخذ هو أسيراً.
فلمّا أسره مؤنس قال له أصحابه: إنّ المصلحة أن نقبض على سُبكرى، ونستولي على بلاد فارس، ونكتب إلى الخليفة ليقرّها عليك؛ فقال: سأفعل غداً، إذا صار إلينا على عادته، فلمّا جاء الليل أرسل مؤنس إلى سُبكرى سرّاً يعرّفه ما أشار به أصحابه، وأمره بالمسير من ليلته إلى شِيراز، ففعل، فلمّا أصبح مؤنس قال لأصحابه: أرى سُبكرى قد تأخّر عنّا، فتعرّفوا خبره؛ فسار إليه بعضهم، وعاد فأخبره أنّ سُبكرى سار من ليلته إلى شِيراز، فلام أصحابه، وقالب: من جهتكم بلغه الخبر حتّى استوحش؛ وعاد مؤنس ومعه الليث إلى بغداد، وعاد الحسين بن حَمدان إلى قمّ.

.ذكر أخذ فارس من سُبكرى:

لمّا عاد مؤنس عن سُبكرى استولى كاتبه عبد الرحمن بن جعفر على الأمور، فحسده أصحاب سُبكرى، فنقلوا عنه أنّه كاتب الخليفة، وأنّه قد حلّف أكثر القوّاد له، فقبض عليه وقيّده وحبسه، واستكتب مكانه إسماعيل ابن إبراهيم البمّيّ، فحمله على العصيان ومَنْع ما كان يحمله إلى الخليفة، ففعل ذلك.
فكتب عبد الرحمن بن جعفر إلى ابن الفرات، وزير الخليفة، يعرّفه ذلك، وأنّه لمّا نهى سُبكرى عن العصيان قبض عليه، فكتب ابن الفرات إلى مؤنس، وهو بواسط، يأمره بالعود إلى فارس، ويعجزه حيث لم يقبض على سُبكرى، ويحمله مع الليث إلى بغداد؛ فعاد مؤنس إلى الأهواز.
وأرسل سُبكرى مؤنساً، وهاداه، وسأله أن يتوسّط حاله مع الخليفة، فكتب في أمره، وبذل عنه مالاً، فلم يستقرّ بينهم شيء؛ وعلم ابن الفرات أنّ مؤنساً يميل إلى سُبكرى، فأنفذ وصيفاً كاتبه، وجماعة من القوّاد، ومحمّد بن جعفر الفريابيّ، وعوّل عليه في فتح فارس، وكتب إلى مؤنس يأمره باستصحاب الليث معه إلى بغداد، فعاد مؤنس.
وسار محمّد بن جعفر إلى فارس، وواقع سُبكرى على باب شيراز، فانهزم سُبكرى إلى بمّ وتحصّن بها، وتبعه محمّد بن جعفر وحصره بها، فخرج إليه سُبكرى وحاربه مرة ثانية، فهزمه محمّد ونهب ماله ودخل سُبكرى مفازة خراسان، فظفر به صاحب خُراسان، على ما نذكره، واستولى محمّد ابن جعفر على فارس فاستعمل عليها قنبجاً خادم الأفشين، والصحيح أنّ فتح فارس كان سنة ثمان وتسعين.

.ذكر عدّة حوادث:

وفيها وجّه المقتدر القاسم بن سيما لغزو الصائفة؛ وحجّ بالناس الفضل ابن عبد الملك الهاشميُّ.
وفيها توفّي عيسى النُّوشريُّ في شعبان بمصر، بعد موت أبي العبّاس ابن بِسطام بعشرة أيّام، ودُفن بالبيت المقدّس، واستعمل المقتدر مكانه تكين الخادم، وخلع عليه منتصف شهر رمضان.
وفيها توفّي أبو عبدالله محمّد بن سالم، صاحب سهل بن عبد الله التُّستريّ.
وفيها توفّي الفيض بن الخضر، وقيل ابن محمّد أبو الفيض الأولاشيُّ الطَّرسوسيُّ، وأبو بكر محمّد بن داود بن عليّ الأصفهانيُّ الفقيه الظاهريُّ، وموسى بن إسحاق القاضي، والقاضي أبو محمّد يوسف بن يعقوب بن حمّاد وله تسع وثمانون سنة. ثم دخلت:

.سنة ثمان وتسعين ومائتين:

.ذكر استيلاء أحمد بن إسماعيل على سِجِستان:

في هذه السنة، في رجب، استولى أبو نصر أحمد بن إسماعيل السامانيُّ على سِجِستان.
وسبب ذلك أنّه لمّا استقرّ أمره، وثبت ملكه، خرج في سنة سبع وتسعين ومائتين إلى الرَّيّ، وكان يسكن بخارى، ثمّ سار إلى هراة، فسيّر منها جيشاً في المحرّم سنة ثمان وتسعين إلى سِجِستان، وسيّر جماعة من أعيان قوّاده وأمرائه، منهم أحمد بن سهل، ومحمّد بن المظفَّر، وسيمجور الدواتيُّ، وهو والد آل سيمجور ولاة خُراسان للسامانيّة، وسيرد ذكرهم، واستعمل أحمد على هذا الجيش الحسينَ بن عليّ المَروَرُوذيَّ، فساروا حتّى أتوا سجستان، وبها المعدَّل بن عليّ بن الليث الصَّفّار وهو صاحبها.
فلمّا بلغ المعدَّل خبرهم سيّر أخاه أبا عليّ محمّد بن عليّ بن الليث إلى بُست والرُخَّج ليحمي أموالها، ويرسل منها الميرة إلى سجستان، فسار المير أحمد بن إسماعيل إلى أبي عليّ ببُست، وجاذبه، وأخذه أسيراً، وعاد به إلى هَراة.
وأمّا الجيش الذي بسجستان فإنّهم حصروا المُعدَّل، وضايقوه، فلمّا بلغه أنّ أخاه أبا عليّ محمّداً قد أُخذ أسيراً، صالح الحسينَ بن عليّ، واستأمن إليه، فاستولى الحسين على سجستان، فاستعمل عليها الأميرَ أحمد أبا صالح منصور بن إسحاق، وهو ابن عمّه، وانصرف الحسين عنها ومعه المعدّل إلى بخارى؛ ثمّ إنّ سجستان خالف أهلها سنة ثلاثمائة على ما نذكره.
ولمّا استولى السامانيّة على سجستان بلغهم خبر مسير سُبكرى في المفازة من فارس إلى سجستان، فسيّروا إليه جيشاً، فلقوه وهو وعسكره قد أهلكهم التعب، فأخذوه أسيراً، واستولوا على عسكره، وكتب الأمير أحمد إلى المقتدر بذلك، وبالفتح، فكتب إليه يشكره على ذلك، ويأمره بحمل سُبكرى، ومحمّد بن عليّ بن الليث، إلى بغداد، فسيّرهما، وأُدخلا بغداد مشهورَيّن على فيلَينْ، وأعاد المقتدر رسل أحمد، صاحب خُراسان، ومعهم الهدايا والخلع.؟

.ذكر عدّة حوادث:

فيها أطلق الأمير أحمد بن إسماعيل عمّه إسحاق بن أحمد من محبسه، وأعاده إلى سَمَرْقَنْد وفَرْغانة.
وفيها توفّي محمّد بن جعفر الفريابيُّ، وقنبج الخادم أمير فارس، فاستعمل عليها عبدَ الله بن إبراهيم المِسْمعيَّ، وأضاف إليه كَرْمان.
وفيها جُعلت أمُّ موسى الهاشميّة قَهرمانة دار المقتدر بالله، فكانت تؤدّي الرسائل من المقتدر وأمّه إلى الوزير، وإنّما ذكرناها لأنّ لها فيما بعد من الحكم في الدولة ما أوجب ذكرها، وإلاّ كان الإضراب عنها أولى.
وفيها غزا القاسم بن سيما الصائفة.
وفيها، في رجب، توفّي المظفَّر بن جاخ، أمير اليمن، وحُمل إلى مكّة ودُفن بها، واستعمل الخليفة على اليمن بعده ملاحظاً؛ وحجّ بالناس في هذه السنة الفضل بن عبد الملك الهاشميُّ.
وفيها، في شعبان، أُخذ جماعة ببغداد، قيل إنّهم أصحاب رجل يدّعي الربوبيّة، يُعرف بمحمّد بن بشر.
وفيها هبّت ريح شديدة حارة صفراء بحديثة الموصل، فمات لشدّة حرّها جماعة كثيرة.
وفيها توفّي أبو القاسم جُنَيْد بن محمّد الصُّوفُّي، وكان إمام الدنيا في زمانه، وأخذ الفقه عن أبي ثور، صاحب الشافعيّ، والتصوّف عن سريّ السقطيّ.
وفيها توفّي أبو برزة الحاسب، واسمه الفضل بن محمد.
وفيها توفّي القاسم بن العبّاس أبو محمّد المعشريُّ، وإنّما قيل له المعشريُّ لأنّه ابن بنت أبي معشر نجيح المدنيّ، وكان زاهداً فقيهاً.
وفيها توفّي أحمد بن سعيد بن مسعود بن عصام أبو العبّاس، ومحمّد بن إياس والد أبي زكرياء، صاحب تاريخ الموصل، وكان خيّراً فاضلاً، وهو أزديّ. ثم دخلت:

.سنة تسع وتسعين ومائتين:

.ذكر القبض على ابن الفرات ووزارة الخاقانيّ:

في هذه السنة قبض المقتدر على الوزير أبي الحسن بن الفرات في ذي الحجّة، وكان قد ظهر، قبل القبض عليه بمدة يسيرة، ثلاثة كواكب مذنّبة، أحدها ظهر آخر رمضان في بُرج الأسد، والآخر ظهر في ذي القعدة في المشرق، والثالث ظهر في المغرب في ذي القعدة أيضاً في برج العقرب.
ولمّا قبض على الوزير وكّل بداره، وهتك حُرمه، ونهب ماله، ونُهبت دور أصحابه ومَن يتعلّق به، وافتتنت بغداد لقبضه، ولقي الناس شدّة ثلاثة أيّام، ثمّ سكنوا.
وكانت مدّة وزارته هذه السنة، وهي الوزارة الأولى، ثلاث سنين وثمانية أشهر وثلاثة عشر يوماً، وقُلّد أبو عليّ محمّد بن يحيى بن عبيدالله بن يحيى بن خاقان الوزارة، فرتّب أصحاب الدواوين؛ وتولّى مناظرة ابن الفرات أبو الحسين أحمد بن يحيى بن أبي البغل، وكان أخوه أبو الحسن بن أبي البغل مقيماً بأصبهان، فسعى أخوه له في الوزارة هو وأمّ موسى القهرمانة، فأذن المقتدر في حضوره ليتولّى الوزارة، فحضر، فلّما بلغ ذلك الخاقانيَّ انحلّت أموره، فدخل على الخليفة وأخبره بذلك، فأمره بالقبض على أبي الحسن، وأبي الحسين أخيه، فقبض على أبي الحسن وكتب في القبض على أبي الحسين، فقُبض أيضاً، ثمّ خاف القهرمانة، فأطلقهما واستعملهما.
ثمّ إنّ أمور الخاقانيّ انحلّتْ لأنّه كان ضجوراً، ضيّق الصدر مهملاً لقراءة كتب العُمّال، وجباية الأموال، وكان يتقرّب إلى الخاصّة والعامّة، فمنع خدم السلطان وخواصّه أن يخاطبوه بالعبد، وكان إذا رأى جماعة من الملاحين والعامّة يصلّون جماعة، ينزل ويصلّي معهم، وإذا سأله أحدٌ حاجةً دقّ صدره وقال، نعم وكرامة، فسُمّي: دقّ صدره، إلاّ أنّه قصّر في إطلاق الأموال للفرسان والقوّاد، فنفروا عنه واتّضعت الوزارة بفعله ما تقدّم.
وكان أولاده قد تحكّموا عليه، فكلّ منهم يسعى لمن يرتشي منه، وكان يولّي في الأيّام القليلة عدّة من العُمّال، حتّى إنّه ولَّى بالكوفة، في مدّة عشرين يوماً، سبعةً من العُمّال، فاجتمعوا في الطريق، فعرَضوا توقيعاتهم، فسار الخير منهم، وعاد الباقون يطلبون ما خدموا به أولاده، فقيل فيه:
وزيرٌ قد تكاملَ في الرّقاعهْ ** يولّي ثمّ يَعْزِلُ بَعْدَ ساعَهْ

إذا أهل الرُّشى اجتمعوا لدَيهِ ** فخَيرُ القَومِ اوفَرُهُم بضاعَهْ

وليسَ يُلامُ في هذا بحالٍ ** لأنّ الشيخَ أفلَتَ من مَجَاعَهْ

ثمّ زاد الأمر، حتّى تحكّم أصحابه، فكانوا يطلقون الأموال ويفسدون الأحوال، فانحلّت القواعد، وخبثت النيّات، واشتغل الخليفة بعزل وزرائه والقبض عليهم، والرجوع إلى قول النساء والخدم، والتصرّف على مقتضى آرائهم، فخرجت الممالك، وطمع العمّال في الأطراف، وكان ما نذكره فيما بعد.
ثمّ إنّ الخليفة أحضر الوزر ابن الفُرات من محبسه، فجعله عنده في بعض الحُجر مكرماً، فكان يَعِرض عليه مطالعات العمّال وغير ذلك، وأكرمه، وأحسن إليه، بعدَ أن أخذ أمواله.

.ذكر عدّة حوادث:

فيها غزا رستم أمير الثغور الصائفة من ناحية طَرَسُوس، ومعه دميانة، فحصر حصن مَليح الأرمنيّ، ثمّ دخل بلده وأحرقه.
وفيها دخل بغداد العظيم والأغبر وهما من قوّاد زكرويه القُرمطيّ، دخلا بالأمان؛ وحجّ بالناس الفضل بن عبد الملك.
وفيها جاء نفر من القَرامطة من أصحاب أبي سعيد الجنّابيّ إلى باب البصرة، وكان عليها محمّد بن إسحاق بن كنداجيق، وكان وصولهم يوم الجمعة، والناس في الصلاة، فوقع الصوت بمجيء القَرامطة، فخرج إليهم الموكَّلون بحفظ باب البصرة، فرأوا رجلَيْن منهم، فخرجوا إليهما، فقتل القرامطة منهم رجلاً وعادوا فخرج إليهم محمّد بن إسحاق في جمع، فلم يرهم، فسيّر في أثرهم جماعة، فأدركوهم، وكانوا نحو ثلاثين رجلاًن فقاتلوهم، فقُتل بينهم جماعة، وعاد ابن كنداجيق وأغلق أبواب البصرة، ظنّاً منه أنّ أولئك القرامطة كانوا مقدّمة لأصحابهم، وكاتب الوزير ببغداد يعرّفه وصول القرامطة ويستمدّه، فلمّا أصبح ولم يرَ للقرامطة أثراً ندم على ما فعل، وسيّر إليه من بغداد عسكراً مع بعض القوّاد.
وفيها خالف أهل طرابلس الغرب على المهديّ، عبيدالله العلويّ، فسيّر إليها عسكراً فحاصرها، فلم يظفر بها، فسيّر إليها المهديُّ ابنَهُ أبا القاسم في جُمادى الآخرة سنة ثلاثمائة، فحاصرها، وصابرها، واشتدّ في القتال، فعدمت الأقوات في البلد حتّى أكل أهله الميتة. ففتح البلد عنفاً، وعفا عن أهله، وأخذ أموالاً عظيمة من الذين أثاروا الخلاف وغرّم أهل البلد جميع ما أخرجه على عسكره، وأخذ وجوه البلد رهائن عنده، واستعمل عليه عاملاً وانصرف.
وفيها كانت زلازل بالقَيروان لم يُرَ مثلها شدّة وعظمة، وثار أهل القَيروان، فقتلوا من كُتامة نحو ألف رجل.
وفيها توفّي محمّد بن أحمد بن كَيسان أبو الحسن النحويُّ، وكان عالماً بنحو البصريّين والكوفيّين، لأنّه أخذه عن ثعلب والمبرّد.
وفيها توفّي محمّد بن السريّ القنطريُّ، وأبو صالح الحافظ، وأبو عليّ ابن سيبويه، وأبو يعقوب إسحاق بن حُنَينْ الطبيب. ثم دخلت: